بقلم الفنان التشكيلى محب يونس
قصة سيارة
======
كانت تلك السيارة الفيات ديلوكس 1100هى أول سيارة أمتلكها فقد أشتريتها من حصاد مدخراتى من عملى فى الأجازة الصيفية فى النمسا فى أول تجربة سفر وعمل بأوربا وكنت حينها تلميذاً فى المدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة فى الثانوية العامة فى سن الـ 16 سنة ولقد كانت سيارة حديثة الطراز (الموديل) وأنا الذى قمت منفرداً بقيادتها وحيداً مضطراً فى رحلة العودة من ( النمسا إلى مصر ) وبالتحديد من فيينا بالنمسا إلى فينيسيا بإيطاليا سالكاً الطريق السريع الدولي (الأوتوبان) مجتازاً أشد جبال النمسا خطورة وتسمى جبال السيمارنج وكانت مغطاة تماماً بالثلوج والجليد فى تلك الأثناء ، وعند إجتيازي الحدود بين النمسا وإيطاليا إستوقفنى ضباط البوليس وطلبوا منى جواز السفر (الباسبورت) وأكتشفوا وأكتشفت أن التأشيرة (الفيزة) قد إنتهت منذ بضع ساعات (ساعات !!! فقط) وكان لابد من دفع غرامة فورية حتى يُسمح لى بمغادرة النمسا وقد دفعت قيمة الغرامة خمسين شلن .. ثم غادرات إلى حدود إيطاليا والتى تبعد بضع أمتار من السابقة وأخرجت لهم أيضاً جواز السفر (الباسبورت) وتم ختم الفيزا فيه بخاتم الدخول ووضعته جانبي بجواري مباشرةً ثم إنطلقت فى إتجاه الطريق السريع (الهاي واي) الذى سأصل منه إلى فينيسيا وكان قد ركب معى أحد الإيطاليين ( أوتوستوب ) بعد إجتيازى الحدود الإيطالية مباشرة وكان لا يتكلم الإنجليزية ولا الألمانية التى أجيدهما لكنه كان لا يتكلم سوى الإيطالية التى لا أعرف منها إلاّ بضع كلمات ، وفهمت منه بطريقة الإشارة أنه يدلنى على طريق مختصر سيوفر من المسافة وساعات السفر الطويلة إلى فينيسيا وكان قد أمسك فى يده الخريطة التى كنت قد أشتريتها من فيينا كى أسترشد بها الطريق من فيينا إلى فينيسيا كنت صغيراً وغريباً وعائداً لتوى من النمسا أكثر البلاد وفاءاً وكرماً وإنضباطا وحُسن أخلاقاً وكان قد إنطبع لدى إنطباعاً جيداً رائعاً عن الأنسان الأوربى وكنت أتصور أن جميع الأوربيين متشابهين فى جودة الأخلاق ولكن للأسف ذاك الإيطالى أستغل وحدتى وغربتى وضللنى وأدخلني فى طريق فرعى ردئ جداً بخبث شديد لكى يصل إلى بلدته فى إيطاليا بطريقة أنانية إستغلالية وخبيثة جداً ولم يراع وحدتى وغربتى وصغر سنى فلقد كان شخصاً وضيعاً وإستغلالياً جداً أضاع منى الوقت وضللنى الطريق .. فضللت طريقي ووجدتنى فى طريق فرعى ضيق جداً مثل طرق القرى والكفور والنجوع وكان قد دخل علىَّ الليل ، رغم أنى كنت قد إنطلقت من فيينا فى حوالى الخامسة فجراً صباحاً .. فأستعنت بالله بكل كيانى ووجدانى وسألته أن يهدينى إلى الطريق الصحيح وأن أصل فينيسيا بسلام المهم وأختصر الكلام .. وصلت بتوفيق من الله وحده بعد مكابدة ومعناة إلى فينيسيا فى فجر اليوم التالى وكنت من شدة الإجهاد والإرهاق والتعب يغالبنى النوم وحمدت الله على وصولى بسيارتى سالماً إلى فينيسيا بعد مشّقة وعنّاء ورُحت وأنا ما زلت ممسكاً بعجلة القيادة فى نوم عميق … وعندما إستيقظت وجدتنى وسط شبه جزيرة وقنوات غريبة من المياه وأبواب وشبابيك معظم المنازل والمحلات تفتح مباشرةً على تلك القنوات وقوارب الجندول التاكسي العائم تجوب المياه مسرعة ومراكب كثيرة مختلفة الأشكال والأنواع والأحجام وأصوات جميلة وغريبة وناس جميلة تتحرك هنا وهناك فى همة ونشاط ، وروائح البيتزا والباستا والكابيتشينو تملأ الأجواء .. وتذكرت أنى جائع جداً .. وتذكرت شيئاً أهم من الأكل والشراب هو أنى لابد أن أنطلق فوراً كى أحجز تذكرة سفري وأشتري بوليصة شحن لسيارتي من فينيسيا إلى الأسكندرية على باخرة عصر الغد (الجزائر) التى تغادر فينيسيا إلى الأسكندرية مروراً ببيروس فى اليونان ، إذاً لابد أن أأخذ جواز سفري (الباسبورت) وأنطلق حالا ًوفوراً بأقصى سرعة لشراء تذاكر العودة إلي مصر الحبيبة لا وقت لدى للأكل أو الشراب الآن ، بعدين بعدين .. مددت يدى بجوارى لأسحب جواز سفري (الباسبورت) وأنطلق به إلى شركة التوكيلات الملاحية لعمل الحجز وشراء بوليصة شحن للسيارة وإذ بى لا أجد جواز السفر (الباسبورت) وأخذت أبحث عنه هنا وهناك وأبحث وأبحث فى كل مكان داخل السيارة بجنون دون جدوى ، وتذكرت ذلك الإيطالى الندل الخبيث الذى ركب معى وضللنى الطريق لا محاله فقد سرق جواز سفري (الباسبورت) من جواري وكان يحسبه حافظة نقودى حيث أنى كنت أضعة داخل حافظة جلدية تشبه حافطة النقود إشتريتها من خان الخليلي قبل سفرى من مصر مع بعض الهدايا وأشياء مصرية وفرعونية أخرى .. وكاد أن يغشى علىَّ من هول الصدمة فبدون جواز السفر (الباسبورت) لا تستطيع أن تتحرك ولا تستطيع أن تفعل أى شئ فى فينيسيا وخاصةً فى ذاك الزمان الماضي المنقضى إذ كان معناه الوحيد الهلاك والضياع التام ولا عودة ولا رجوع ، وأسودت الدنيا وأظلمت وشعرت أنى هالك لا محالة .. وظللت طيلة يومي أبحث عن جواز السفر (الباسبورت) بشكل هيستيرى مجنون أفرغ جميع الحقائب وكل شئ من السيارة على الأرض وأبحث داخلها وفوقها وتحتها وفى كل مكان محتمل أو حتى غير محتمل لعلي أن أجد فيه جواز سفرى (الباسبورت) المفقود ، ثم أعيد تحميل الحقائب ثم أعيد تفريغها ثم أعيد الكرَّه مرّه تلو المرّه ، دون أى جدوى ودون نتيجة ودون أى فائدة ، والوقت يمر ويضيع ويضيع كذلك معه ما تبقى لى من أمل ، وصارت كل أشيائي داخل السيارة مبعثرة على المقاعد وتحت المقاعد وعدى النهار وجاء الليل وصرت مُجهداً ومنهك القوى تماماً أردد فى سرىِّ : لا حولَّ ولا قوة إلا بالله .. وفوضت أمرى بالكامل لله وتوجهت إلي الله أسأله بكل ذرة فى كيانى وأتوسل إليه كما لم أتوسلً إليه من قبل ، كنت أتوسل لقدرته التى فاقت كل القدرات وعظمته التى عظمت بلا حدود وإلى مالا نهاية .. إنى أعلم يا الله أنه لا إله إلا أنت ، أنت القادر على كل شئ ، أعلم أن جواز سفرى (الباسبورت) قد سرقه منى ذلك الشخص الذى ضللنى الطريق ، وسألتك يا رب بعظمتك وبقدرتك الهداية والسلامة فهديتنى إلى الطريق الصح ووصلت بقدرتك سالماً ، وإنى على يقين تام وكلى إيمان فى عظمتك وقدرتك يا رب أن تأتينى بجواز سفرى (الباسبورت) منه وأن تنقذنى وتنجينى مما أنا فيه ( يارب لقد إستحال علىَّ الممكن والمستحيل ) المستحيل بالنسبة لى يكون بأمرك يا الله ممكن يا من أمرك بين الكاف والنون وإذا قلت للشئ كن فيكون .. وكان التعب والإرهاق والإجهاد مع عدم تناول أى طعام قد بلغ منىِّ مبلغه فلم أجد مكان أضع فيه جسدى المنهك سوى المقعد الذى بجوار السائق فذهبت أفتح الباب الأيمن الأمامي كى ألقى بجسدى المنهك على المقعد وكنت أردد فى سريِّ الصباح رباح إن شاء الله سيفرجها ربنا غداً سيفرجها ربنا غداً ولا حولَّ ولا قوة إلا بالله العظيم ، وما كدت أفتح الباب حتى سقط شئ ما فى الظلام على قدمي وأنحنيت أتبينه وأنا فى شدة الإنهاك والتعب وإذ أفاجأ به أنه جواز سفري (الباسبورت) المفقود قد رده الله إليّ بقدرته الألهية الربانية العظمى ، وكأن روحى هى التي رُدت إلي جسدي وكأنى من شدة الفرحة والسعادة قد حلت بي طاقة وقدرة ربانية فائقة تسري فى كُل جسمي زيادة فى رضاه وعظيم كرمه ووجدتنى أصيح بأعلى صوتي : اللهُ أكبر كبيراً والحمدُ للهِ كثيراً وسبحانَ اللهِ بكرةً وأصيلا فسمعنى بعض المصريين وأتوا إلى مسرعين مندهشين ، لكنهم كانوا سعداء بعد أن علموا بالقصة وقلت لهم هيا أنتم معزومين على حسابى بمناسبة أن رد الله إلى جواز سفرى (الباسبورت) وأنا جائع جداً وكان منهم محسن أولى عمارة فنون جميلة وكان قادم من ألمانيا بسيارة فيات 1500 ومصطفى الذى تهشمت وتحطمت سيارته أثر حادث فوق جبال السيمارنج وآتى بدونها ومدحت الشازلي الذى يدرس الفنون فى إيطاليا والأخوان سعيد ومحسن البطران أحدهم فى أولى نسيج فنون تطبيقية والآخر ثالثة نسيج فنون تطبيقية وكانوا جميعاً شباب فى منتهى الثقافة والرجولة والشهامة والأخلاق العالية .. بعد العشاء الفخيم فى أرقى مطاعم فينيسيا أصر مدحت على دفع الحساب للجميع ويقول أنتم جميعاً ضيوفى هنا أنا المقيم فى إيطاليا وأنتم جميعاً ضيوفى هنا ، فى الصباح ذهبت مع هذه الصحبة الجميلة وكان مدحت قد وعدنى أنه سوف ياتى معى فهو يجيد اللغة الإيطالية ليساعدنى على الحجز معهم على نفس رحلة العودة إلى مصر على نفس الباخرة (الجزائر) وفعلاً قد كان وفُرجت بأمر الله وحجزنا العودة .. وعند الصعود إلى الباخرة كان هناك بروتوكولاً لا أعلم هل ما يزال متبعاً حتى الآن أم لا وهو أن يصطف طاقم الباخرة وعلى رأسهم القبطان يرحب بالركاب عند فحص جوازات السفر وكانت المفاجأة الكبرى إذ أفاجأ بقبطان الباخرة ينادينى متسائلاً وهو ينظر فى جواز سفري (الباسبورت) : يا محب أنت من أى مركز فى المنوفية فقلت له : من أشمون يا أفندم .. فسألني : هل تعرف أحداً فى شنشور من عائلة القطان ، قلت له : طبعاً أعرف الأستاذ حسنى الجندي القطان والأستاذ السيدعبد الرسول القطان وفلان وفلان قال : كويس وهل تعرف الأستاذ صفى الدين القطان .. قلت له : أسمع عنه فقط ، قال أنا تربطنى بعائلات شنشور مصاهرة ونسب وصلة قرابة وبالأخص عائلة القطان وأنت ضيفى الأول من الآن وطوال الرحلة تتناول طعامك معى على مائدتي مائدة القبطان مع كبارالشخصيات وكبار المسافرين وتنزل فى الدرجة الأولى الممتازة درجة كبارالمسافرين بأمر القبطان وجميع طلباتك من الآن حتى نصل بالسلامة إلى الأسكندرية مجابة بأمر القبطان .. قلت أنا أشكرك جداً جداً جداً على هذا الكرم العظيم سيادة القبطان لكن السماح والمعذرة لا أستطيع أن أقبل هذا الكرم السخي الكبير وهذه المنزلة الرفيعة .. قال لماذا وهل هذه الدعوة ترفض ، قلت له حاشا لله لا سامح الله أنا لا أرفض دعوة سيادتك أبداً لكن أنا معى أصدقاء على الباخرة ولا أريد أن أفارقهم ( إحنا نازلين درجة ثالثة مع بعض ) وليس من اللياقة التخلي عنهم بأى حال من الأحوال وكان يدور فى خلدى ما فعله مدحت ودعوته لنا جميعاً للعشاء على حسابه ليلة أمس التى كانت وسعيه معى فى الصباح الذى كان بمنتهى الهمة والحماس والإخلاص كى ألحق معهم العودة على نفس الباخرة .. ووجدت القبطان يقول : أنا مبسوط وسعيد بك جداً ومن أسلوبك فى الكلام معى وكذلك فى أصلك الطيب وعدم تخليك عن زملائك فها أنت تثبت لي فعلاً الآن إنك من شنشور بلد الأصالة والشهامة والرجولة والجدعنة بلد أعز الناس وأغلى الحبايب ، أنا دعوتك يا محب وأنت ضيفى الأول على الباخرة ولك أن تدعو أصحابك معك بالدرجة الأولى الممتازة وأن تتناولون الطعام معى أيضاً على مائدة القبطان وكبار المسافرين بأمر القبطان وهذا أمر ينفذ من الآن وحتى وصول الباخرة إلى الأسكندرية بالسلامة وبلغ السيد والدك الأستاذ رمضان سلام منى السلام وأذكرني عندما تعود بالسلامة إلى شنشور بالخير .. حقاً كانت أجمل رحلات عُمري كله رحلة سبع نجوم ويزيد ، كنا نتناول مع قبطان الباخرة أشهى والذ الطعام والشراب والحلويات والفاكهة فى أبهى وأحسن شكل ولون فى أفخم سرفيس وبأعلى وأحسن جودة خدمة فندقية عالمية مع نخبة رائعة من السفراء وكبار الشخصيات وكان ترتيب مقعدى على المائدة يمين القبطان وبجواره مباشرةً كوني ضيفه الأول ، كانت بحق رحلة متعة وسعادة ونعيم لايضاهيها أى متعة وسعادة ولا فى ألف ليلة وليلة بل أجمل وأحسن ويزيد ويزيد وكأني كنت فى الجنة ، حتى وصولي بسيارتي تلك بفضل الله وسلامة الله إلى ميناء الأسكندرية وإلى مصر الحبيبة .. إن كان هذا القبطان الفاضل والذى كانت إقامته فى الأسكندرية ما يزال على قيد الحياة فأنا أرسل له ملء بحار ومحيطات الدنيا محبة وسلام وأطيب التحيات وسأظل أذكره فى شنشور وفى كل مكان وفى كل زمان بكل الخير ما حييت ، وإن كان قد رحل إلى العالم الأفضل فأنا أدعو له ملء الأرض والسماوات بصالح الدعوات أن يشمله الله بواسع الرحمات فى أعلى فسيح الجنات وأن ينعم عليه كما أنعم علىَّ فى تلك الرحله الرائعة ويزيده الله من نعيم الجنةً الدائم المقيمً
ملحوظة : هذه القصة حقيقية كتَّبتْ أحداثها بإختصار شديد لضيق مساحة النشر .. لجميع الشخصيات المذكورة هنا منىِّ كل التبجيل والإعتزاز والمحبة والإحترام ولمن رحل منهم عن عالمنا الفانى له منىِّ أطيب وصالح الدعوات بالرحمة والعفو والمغفرة وجنات عرضها السموات والأرض
يظهر فى الصورة من أقصى اليمين من جهة حقيبة السيارة شقيقي الأستاذ يوسف رمضان ـ ثم أنا محب يونس رمضان ـ ثم شقيقي المرحوم مهندس مدني يسري رمضان ـ ثم مهندس مدني محمد المغازي ـ ثم مهندس ديكور عصام ميتكيس ـ ثم مهندس معمارى محمد رأفت فى رأس البر فى الصيف التالى بعد أن كنت قد حصلت على الثانوية العامة من المدرسة السعيدية والتحقت بكلية الفنون التطبيقية
خواطر وذكريات
من مذكرات مهندس / محب يونس رمضان سلام
ُ
جزيل شكري وإمتناني لجريدتكم الغراء جريدة إبداع العرب ولكم عزيزي السيد رئيس مجلس الإدارة والتحرير الأستاذ عمرو الكاشف علي نشر ( قصة سيارة ) قصة واقعية من أدب رحلات الفنان العالمي محب يونس سلام
رحلة كفاح عظيمة واعتماد ذاتي علي النفس من سن مبكرة