بقلم/ مالك عونى
مدير تحرير مجلة السياسة الدولية
د
دائرة صدام الاصوليات المغلقة هي جرس الإنذار الحقيقي الذي تقرعه بعنف شديد الجريمة الإرهابية في نيوزيلندا اليوم. جرس إنذار لا يخص منطقة بعينها ولكنه جرس إنذار للنظام العالمي بأسره.. تكشف هذه الجريمة عن الحقائق التالية في تقديري:
١- خلافا لمقولة أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، والتي يحاول البعض من خلالها تبرئة عقائده وخطاباته وبنيته الفكرية من وزر التطرف والإرهاب، أحسب أن تلك العملية تؤكد أن كل العقائد والأيديولوجيات والأنظمة الفكرية والثقافية يمكن أن تؤول بحيث تصبح مصدرا مغذيا للتطرف ومن ثم الإرهاب. لذا فلا يتعين التستر بإرهاب الآخر للتهرب من القيام بمهمة التحرير العقلاني لعمليات إنتاج وإعادة إنتاج العقائد والأيديولوجيات كمنظومات فكرية بشرية من أوهام القداسة، والتصور الواحدي والحتمي للحقيقة وهما المكونان الأساسيان لأي فكر أصولي متطرف.
٢- كل الشواهد تثبت أن المشتبه به -حتى الحظة- في تنفيذ هذه الجريمة يستمد أفكاره من خطاب أصولي عرقي (أو ما بات يسمى القومية البيضاء) تمتد وتنتشر أصداؤه -مثله في ذلك مثل الأصولية الإسلامية- عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي باتت بحق تجسد ما تصوره الأولون عوالم افتراضية تفصل بين المؤمنين -مملكة السماء- وغيرهم من الضالين. هذه الأصولية العرقية تستدعي مثلها مثل الأصولية الدينية النصوص والتاريخ وتأويلاتهم الرمزية لتبصر الواقع بعده فضاء لنفي الآخر وتأكيد أوهام الأفضلية لجماعة بشرية بعينها. ومن المشاهد المهمة في هذا السياق ان المشتبه به قبيل تنفيذه جريمته الإرهابية كان يستمع لأغنية تمجد القائد الصربي رادوفان كارزتش منفذ مذبحة سربرينتشا.
٣- مع الإقرار بأن لتلك الأصولية العرقية البيضاء جذور تضرب في تاريخ اوروبا وثقافاتها، لكن المؤكد أن تلك الأصولية تتغذى اليوم مما جنته وتجنيه الأصولية الإسلامية. وفي الواقع فإننا نشهد بامتياز إعادة إحياء لنموذج القطيعة الذي أطره بامتياز كتاب “محمد وشارلمان” المهم. لكن دون أن يتاح لتلك القطيعة أن تحظى بنطاقات إمبراطورية جغرافية منفصلة مثلما كان عليه في العصور الوسطى.
٤- تثبت دائرة الصدام الأصولي المغلقة التي يندفع لها العالم جسامة الجريمة التي ارتكبتها في حق العالم السياسة الأمريكية المتخبطة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، من نهاية التاريخ إلى صدام الحضارات إلى نموذج الفوضى الذي بات يهدد العالم بأسره وليس الشرق الأوسط فقط.
٥- تكشف هذه الجريمة بجلاء عن عمق أزمة النموذج الديمقراطي، والذي تمثل مقولاته وهما مفاهيميا من الأساس، لكن حتى هذا الوهم بات عاجزا عن ضمان السلم الاجتماعي، ناهيك عن السلم العالمي، خاصة في ظل تجسد التأثير الواقعي لما كان يسمى قبل عقد من الزمان عوالم افتراضية. وتثبت الأحداث الجسام حول العالم، يوما بعد آخر، أن المجتمعات باتت تعرف في تفاعلاتها السياسية والاقتصادية، بل والفكرية والثقافية، عالمين منفصلين ويزداد تباعدهما: عالم مؤسسات الديمقراطية التمثيلية التي ينفض الناس من حولها، وعالم الفضاء الإلكتروني الذي هو في الواقع عوالم عدة غير متجانسة وغير متصالحة وأغلبها يكرس البناء الأصولي -بالمعنى الاصطلاحي للكلمة- للإنسان المعاصر، بأكثر مما يؤسس لأي حوار إنساني.
برغم كل خطابات الاستنكار والشجب التي ستتوالى فالحقيقة أن العالم اليوم بات يواجه تغيرات بنيوية عميقة هو غير مؤهل لإعادة إنتاج حضوره الحداثي التقليدي في ظلها من دون مراجعات فكرية عميقة وجذرية لأغلب مقولات العلوم الاجتماعية التي تطورت منذ القرن الثامن عشر.