بقلم/ د. جمال على الدهشان
أستاذ أصول التربية، عميد كلية التربية- جامعة المنوفية، رئيس مجلس إدارة مركز تعليم الكبار بالجامعة
مشكلة الأمية من المشكلات التى ينبغي أن تكون جديرة بالاهتمام بسبب زيادة حجمها كما وكيفا، ونظرا لما ينتج عنها من مشكلات أخرى ، وما يترتب عليها من مخاطر قد تكون قريبة المدى أو بعيدة. فالأمية مشكلة تحول بين الإنسان والحياة، وتجعله لا يبرح مكانه تفكيراً وتغييراً وتنمية، ووجداناً. فكما العين مادتها البصر، والأذن مادتها السمع، واللسان مادته الذوق، فكذلك العقل مادته الوعى والتنور Literacy.
وإذا كانت الأمية تعنى مؤنث الأمى، وهى لغة تغنى الغفلة او الجهالة، أو ” انخفاض مستوى معرفة الفرد فى مجال معين عن المستوى الممكن موضوعياً والمطلوب اجتماعياً والمرغوب فردياً، فانه وفى ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من متغيرات عديدة وتحديات واضحة، تغير مفهوم الامية ومحوها وتعددت آفاقه ومجالاته وامتدت لتشمل جميع مجالات الحياة متجاوزا المهارات الأساسية فى القراءة والكتابة والحساب إلى المستوى الذى يؤهله لمتابعة الدراسة والتدريب ، ليشمل الى جانب محو الامية الابجدية ما اطلق عليه ، محو الامية الوظيفية ، محو الامية البيئية ، محو الامية الاسرية ، محو الامية الصحة ، محو الامية الوجدانية ، محو الامية المعلوماتية ، محوالامية الدوائية ، محو الامية القانونية .. وغيرها .
انطلاقا من أهمية القانون باعتباره أساساً في تنظيم كافة العلاقات الشخصية والمجتمعية ،واهمية التشريعات القانونية ، ودورها في تنظيم علاقات وأداءات الأفراد في المجتمع ، فان الأمر يتطلب ضرورة أن يكون كل فرد في المجتمع على دراية بها، وليس أحوج في هذا من المراة .
فالقانون يلعب دورا رئيسا في تنظيم العلاقات داخل المجتمع، كما أنه يعد حامى حمى القيم والحقوق بين الأفراد في المجتمعات المختلفة، فهو يدخل في كل أمور حياتنا اليومية وبشكل دائم ومستمر ، كما انه يعدمن أهم وسائل الضبط الاجتماعي، بل هو الوسيلة الأساسية، التي يعتمد عليها المجتمع المنظّم في ضبط سلوك أفراده،فالمواطن والمراة بصفة خاصة تواجه بمتطلبات قانونية عديدة عند ممارسة حياتها اليومية تتدرج من مجرد عمل شهادة ميلاد لابنه ، أو جرد ممتلكات ميراث لوالديه أو ضرورة لإرسال أبنائه إلى المدرسة في سن الإلزام اوالحصول على ترقياتها وغيرها من الأمور التي تؤكد أن القانون يتداخل في حياتنا اليومية وبصورة فعلية، فلا تستقيم ولا تزدهر امة دون قوانين ونظم تحدد العلاقات بين الاقراد والمؤسسات وتوضح الحقوق والواجبات واسس المعاملات ، وينبغى على الانسان ان يعرف قدرا مناسبا من القوانين التى يتاثر بها فى حياته والتى تحكم سلوكيلته وتصرفاته فالجها بالقانون لايعفى من تطبيقه .
والمطلع على واقع المجتمع المصرى يلحظ ضعفا عاما فى مستوى وعى المراة المصرية بالمعلومات والمعارف المتعلقة بحقوقها الشرعية والقانونية ومسئولياتها الى درجة وصف البعض لتلك الظاهرة بالامية القانونية ، متمثلة فى الجهل بالقانون وعدم معرفة أبجدياته وآلية التعامل معه وتوظيفه لإنهاء مصالحنا، الأمر الذي يمكن أن يؤدى الى وقوعها في بعض الأخطاء أثناء القيام بدورها وممارسة أعمالها و إهدار لبعض الحقوق الخاصة بها وبعملها ، الامر الذى يتطلب ضرورة توعيتهن بحقوقهن وواجباته المهنية حتىتستطيع أن تأمن على حياتها ومستقبلها في مهنتها (محو الامية القانونية ).
ان جهل الافراد – والمراة بصفة خاصة- بالقانون وعدم معرفتهم أبجدياته وآلية التعامل معه وتوظيفه لإنهاء مصالحهم ، يؤدى فى الغالب تهضم حقوقهم وتعقد معاملاتهم ويجعلهم يقعون في الخطأ بسبب الجهل بالقانون، فالقوانين هي الأساس الذي يرتكز عليه تنظيم مجتمع قائم على مصالح شخصية واقتصادية وتنافسية ومتشابكة أحيانا، وحينما يكون هنالك تصادم بين هذه المصالح بسبب الجهل بالقانون أوتجاهله تحدث فوضى وخلل بالمجتمع! فجهل الناس بكثير من القواعد القانونية والأنظمة المعمول بها بُحجج عديدة، يُعرّض كثيرين لمواقف سيئة وضياع للحقوق، وهذا يجعل السعي لمحو الأمية القانونية ضرورة وليس ترفا زائدا.
فى هذا الاطار اظهرت نتائج احدى الدراسات بشكل جلي أهمية الوعي القانوني للنساء بالقوانين والتشريعات من اجل تمكين ووصول النساء المهمشات إلي العدالة حيث أكد عدد كبير من النساء المهمشات في شرق غزة – علي على سبيل المثال – أن جهلهن وعدم درايتهم بنصوص القانون وأحكامه سبب رئيسي في عدم حصولهن علي حقوقهن المنصوص عليها في القوانين والتشريعات وهو ما عزز لديهن بالاعتقاد أن الوعي القانوني يؤدي إلي وصولهن إلي العدالة وتمكينهن من الدفاع عن حقوقهن وحرياتهن .
واذا كنا نتناول قضية تنمية الوعي القانوني للمراة( محو الامية القانونية) ، فينبغي ان لا نغفل ان المراة جزء من المجتمع ، وهي مرآة لواقع ذلك المجتمع ، ويعني ذلك ضرورة طرح قضايا المراة في هذا المنظور الواسع الأشمل ، فالرجل ينخفض وعيه بحقوقه القانونية وهو يحتاج الى تنمية هذا الوعي ، الا انه من المؤكد ان المراة تعاني اكثر من المثل هذا القصور لعدة اعتبارات تتعلق بالثقافة والتعليم واعتبارات اخرى اقتصادية واجتماعية وان قضية الوعي القانوني للمراة يختلف باختلاف الشرائح التعليمية والاجتماعية للمراة المتعلمة ، هي الاكثر وعيا بحقوقها نسبياً عن المراة غير المتعلمة كما ان وعي المراة غير العاملة يختلف عن وعي ربة البيت وهناك متغيرات ثقافية واجتماعية واقتصادية تؤثر على مستوى الوعي القانوني للمراة وتتمثل هذه التغيرات في مستوى التعليم والدخل والثقافة واخيراً فأن الوعي القانوني للمراة لا يقتصر على مجرد إدراكها لحقوقها القانونية في مجال الاحوال الشخصية بل يمتد الى مجالات اخرى مثل العمل والتأمينات الاجتماعية.
ان الدعوة الى محو الامية القانونية للمراة المصرية تأتي في مرحلة زمنية هامة لتواكب اهتمامات واحتياجات المرأة من حيث التوعية بالتشريعات والقوانين التي تمس جوانب حياتها المختلفة الشخصية العملية في ظل الحاجة الماسة الى زيادة الوعي وتعزيز المشاركة في مختلف جوانب الحياة العامة ، وصولا الى ادوار جديدة تستثمر الطاقات والقدرات النسائية وتوظفها لخدمة العملية التنموية بشكل عام ، وتسهم بدرجة كبيرة فى تمكينها فى المجتمع ، وتدعيم دورها الفاعل فيه ، وتمكنهم من الحكم على الواقع الذى يعيشونه بمنظور قانونى واضح.
كما تأتى هذه الدعوة فى وقت اصبحت فيه المرأة جزءا حيويا مهما في المجتمع وتملك زمام العديد من المناصب والأماكن المهمة وتقوم بالعديد من الأدوار غير دور الأمومة المعهود لها والمتعارف بحصرها عليه وعلى القيام ببيت الزوجية ، ففي ظل تلك المتغيرات الحياتية المتسارعة سواء الاجتماعي منها أو العملي والاقتصادي، صارت المحاكم ترصد تزايدا كبيرا في القضايا النسائية بشتى أنواعها، فترتادها المرأة كمدع أو مدعى عليها. ومع ضعف الوعي القانوني عند المرأة وتواضع الثقافة القانونية لديها ما يؤدي إلى التعامل السلبي مع القضايا بما يفوت عليها الكثير من حقوقها الثابتة ومصالحها أثناء التقاضي ، كما ان ذلك يُساعد المماطلين في المماطلة أكثر، وعدم الوفاء بالالتزامات الواجبة عليهم؛ والسبب في ذلك أن صاحب الحق لم يعمل بكافة الأسباب لِحفظ حقه بالكامل، فكان من بداية المعاملة مُتنازلاً عن حقه.
فمحو الامية القانونية او التنور القانونى يعد أحد الروافد المهمة التي تقوي الشخصية الإنسانية، وتجعل منها ذاتاً قادرة على مواجهة معترك الحياة، بغير جهل لما له منها وما عليه فيها، فمعرفة المراة لما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، ووعيها لحدود مسؤولياتها الفردية، والعلاقة القانونية بينها وبين غيرها ، وبينها وبين الدولة، تساعد على ترسيخ احترام القانون والانصياع لسلطانه، باعتباره الضمانة الرئيسة لحفظ الأمن والحقوق، والأرواح والممتلكات، والأساس في تحقيق التنمية والاستقرار، ولا شك أن احترام القانون وإعلاءه فوق كل اعتبار يساعد في القضاء على الممارسات والسلوكيات السلبية، ويعزز الشعور العام بالعدالة في المجتمع، ويحفظ الأمن المجتمعي الشامل، ويتصدى لأية مظاهر سلوكية لا تعبر عن المظهر الحضاري للدولة.
من ناحية أخرى، وإذا كنا نعيش فى العصر الرقمى، فإن مصادر حصول الافراد على المعلومات القانونية لم تعد تقتصر على المصادر التقليدية الورقية، بل امتدت ايضا الى المصادر الالكترونية ، حيث أصبحت المواقع الإلكترونية، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، احد المصادر الأساسية للمعرفة القانونية بالنسبة للأشخاص الرقميي، الامر الذى يمكن ان يؤدى فى بعض الاحيان الى وجود شكل اخر من اشكال الامية القانونية ، او الجهل بالمعلومات القانوية الصحيحة ، فأغلب المعلومات المنشورة على الكثير من المواقع الإلكترونية غير صحيحة أو غير معروفة المصدر، كما أن بعض الأشخاص الذين يقدمون الاستشارات القانونية الإلكترونية ليس لديهم الخبرة، أو المعرفة الكافية، فيقدمون إلى الأشخاص الرقميين معلومات واستشارات غير صحيحة، تُسبب لهم مشكلات كثيرة، وتُلحق بهم أضراراً كبيرة، هذا فضلاً عن أن بعض أولئك الذين يتبرعون بتقديم استشارات قانونية مجانية، أو ينشرون معلومات قانونية، قد يكون هدفهم الشهرة أو جلب موكلين.
ولا يخفى على أحد ما يترتب على نشر معلومات قانونية غير صحيحة، أو تقديم استشارات قانونية غير دقيقة، من ضياع للحقوق، واضطراب للمراكز القانونية في المجتمع، فتشيع الفوضى، وتتأثر العدالة، وتتزعزع ثقة الأفراد في القانون، وفي مؤسسات الدولة، وتضطرب العلاقات، ويكون الشك وعدم الثقة هما سيدا الموقف ، الامر الذى يتطلب ضرورة ان تتبنى الدولة هذا الأمر، فتوفر عبر مؤسساتها العامة بوابات إلكترونية، تختص بنشر الوعي القانوني، وتقديم الاستشارات القانونية، وفي المقابل يجب على الأشخاص الرقميين، أن يتحروا الدقة في اختيار المواقع الإلكترونية، التي يستقوا منها معلوماتهم القانونية، أو التي يطلبون مشورتها في مشاكلهم القانونية، وأن يكتفوا في ذلك بما توفره الدولة خلال مؤسساتها العامة، والجهات المرخص لها في هذا المجال.
فى ظل كل ذلك الامر يتطلب الامر ضرورة العمل علي تعزيز الثقافة المعرفية لدي النساء بالقوانين والتشريعات التي تمكنهن من معرفة حقوقهن وحرياتهن وتبسيط النصوص القانونية وتيسير الوصول إليها وفهمها بشكل جيد وبلورتها في شكل مألوف ومناسب لكل شرائح المجتمع وخاصة النساء غير المتعلمات اللواتي يجدن صعوبة في قراءة وفهم النصوص القانونية وأحكامها .