بقلم الباحث/ أحمد فتحي حسن
مدير اتحاد الأثريين المصريين
لعل من أبرز أنواع الأدب المصري القديم “أدب الحكم والنصائح والأمثال” وهو ما يُطلق عليه اسم “الأدب التهذيبي” أو “التعليمي”، ويُقصد به أدب النصيحة والتعاليم والحكم وأنماط التنشئة والسلوك العامة، وتأتي أهمية هذا النوع من الأدب في كونه مؤثراً في تكوين شخصية الفرد وثقافته ومبادئه وأخلاقة، وعُرف هذا النوع من الأدب منذ عصر الدولة القديمة. فقد حظى الأدب فى الحضارة المصرية القديمة بصفه عامه بمكانة خاصة على مر العصور، وكان الأدب مرآة لكل عصر بما يتضمه من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية كان لها عظيم الأثر فى التأثير على العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية والسلوكية للأفراد فى المجتمع المصرى القديم.
وتمثل الأخلاق والمُثل العليا قواعد الأخلاق والسلوك، وتكفل لهم سبل النجاح والتضامن والتكافل، كما أنها تعمل على تنشئة أبناء المجتمع على أسس أخلاقية وسلوكية تتيح لهم الإنصهار فى المجتمع الذى يعيشون فيه، كما تشير القيم الأخلاقية والسلوكية ومدى تمسك الأفراد بها إلى طبيعة الحياة فى المجتمع.
توج المصري القديم هذا الصرح المعرفى بتوصله للكتابة، والتي جعلت مصر من أسبق شعوب العالم في هذا المجال، وسبق المصريين غيرهم كذلك في صناعه ورق البردي، وخلف لنا المصريون القدماء الكثير من الروائع في مجال الأدب، فظهر لنا من دراسة تلك الثروة الأدبية الضخمة مدى براعة المصريين في الإنشاء وجمال الإسلوب وبلاغته، واستخدامهم المعاني الجميلة والبراعة في التصوير، وساعدهم في ذلك مرونة اللغة المصرية القديمة وما بلغته من امتياز في مجال المجاز والتشبيه والكناية والاستعارة والبيان.
وأمام هذه الثروة الأدبية المتنوعه لجأ العلماء إلي تقسيمها إلي عدة أنواع، وإن كان من الصعب وضع حدود فاصلة بين نوع والآخر في بعض الأحيان نظرا لتداخل فروعها كل مع الآخر، ويمكننا تقسيم أنواع الأدب المصري القديم إلي: أدب الأسطورة، وأدب النقد، والسياسة، وأدب الرسالة، وأدب الأناشيد، والأدب القصصي، والأدب التهذيبي، وأدب الملاحم، والمدائح، والغناء.
فعلي سبيل المثال لا الحصر يقول الحكيم “بتاح حتب” من عصر الدولة القديمة “الظلم موجود بوفرة، ولكن الشر لا يمكن أبدا أن ينجح علي المدي الطويل”. وفي سياق حديثه لإبنه فقد صور له سبيل الاستقرار في الأسرة قائلا له: “إذا أصبحت كفء .. كوِن أسرتك .. وأحبب زوجتك .. وعاملها بما تستحق .. واشبع جوفها .. واستر ظهرها .. وعطر بشرتها بالدهن .. العطر .. فالدهن ترياق لبدنها .. واسعدها ما حييت، فالمرأة حقل نافع لولي أمرها .. ولا تتهمها عن سوء الظن .. وامتدحها تخبت شرها .. فإن نفرت راقبها واستمل قلبها بعطاياك في دارك .. وسوف يكيدها أن تعاشرها ضرة في دارها” .. وإذا كنت رجلا عاقلا فاتخذ لك بيتاً .. وأحب زوجتك وخذها بين ذراعيك .. واكسى جسدها .. أفرح قلبها طول حياتك .. لأن مثلها مثل الحقل الذي يعود بالخير الوفير على صاحبه”. لا تكن فخورا بمعلوماتك، استشر الجاهل والعارف، وهو ما يقابل في ثقافتنا العربية (ما خاب من استشار)، و”شاور صغيرك وكبيرك، ولا تثرثر مع جيرانك، فالناس تحترم الصامت.
ففي عصر الانتقال الأول، جاء نص تحذيرات الحكيم إيبو ـ ور: يعكس لنا مدى الاضمحلال والتدهور الذي أصاب البلاد والذي كان له عظيم الأثر في تردى كافة الأوضاع ومنها القيم والمبادئ والسلوكية والأخلاقية، فجاء بالنص ما يفيد ذلك، فيقول الحكيم إيبو ــ ور: “انتزعت مومياوات علية القوم من مقابرهم وأُلقيت في الطريق العام .. وأصبح سر التحنيط جهر”. انظر فقد حدثت أشياء لم تحدث فيما مضي، إذ اغتصب الفقراء القبر الملكي .. وأصبح الملك الذي دفن كصقر يرقد على نعش”.
وفي عصر الدولة الوسطى، والذي يُعد من أزهي فترات التاريخ المصري القديم، والذي شهد استقراراً للأوضاع السياسية والاقتصادية عقب عصر الانتقال الأول، فهذا نص تعاليم الملك أمنمحات الأول الذي وجه إلى ابنه سنوسرت الأول: “لقد أعطيت الرجل الفقير، ورعيت اليتيم، وتسببت في أن يصل من لا هدف له إلي هدفه، مثل الحاضر الذي له هدف”، و”عندما تنام احرس قلبك نفسك”، لن يجد الرجل المحببين في يوم الشدة”، و”لم يوجد جوعى بعهدي، ولم يعطش أحد هناك، وجلس الناس ليصفونى”.
جاءت الفقرات السابقه متضمنة فكرة توضيح تحقيق العدالة وجهود الملك التي قام بها لتحقيق الرفاهية لشعبه وتطبيق مفهوم الماعت، حيث عبر عنها المصري القديم في اللغة المصرية القديمة بكلمة واحدة جامعة وهي “الماعت” والتي تفيد معني الحق، والحقيقة، والعدالة، والصدق، والاستقامة، وقد تضمنت “ماعت” كل هذه المعاني متضمنه الدين والحكمة والأخلاق والشرائع.
ويأتي بعد ذلك تعاليم الحكيم (الشيخ أمنموبي)، الموظف الأديب المتدين في فتره ما من القرن التاسع قبل الميلاد، وقد تحدث في مقدمة تعاليمه عن أغراضه منها أن تكون هاديا لقارئها إلي السعادة ومرشدا إلي القواعد مخالطة الخلصاء والكبراء وتقاليد أهل البلاط، ومعرفة الرد شفاهة وكتابة مع كل من يحادثه ويراسله، فضلا عن راحة ضميره وحسن سمعته بين الأقارب والأغراب.
ولما كان الشيخ أمنموبي قد عاش في عصر الحكم الثيوقراطى، واشتد فيه نزعة التدين، وكان قد هيأ ابنه لمنصب ذي صلة بمعبد .. لذا اصطبغت تعاليمه بروح التقوى والورع والدعوة إلي خشية الإله بعدله وعلمه والإيمان بقضائه وقدره وقال لابنه “كن رصينا في تفكيرك وثبت فؤادك عن لسانك تصبح مشروعاتك كلها ناجحة، وثمه شئ آخر محبب إلى الرب وهو التروي قبل الكلام”. وكان من قول الشيخ أمنموبي: أنه شتان بين الكلام الذي يقوله الناس وبين ما يفعله الإله”.
وفي العصر المتاخر، جاء الأدب المصري القديم معبراً عن حال المجتمع في هذا الوقت فجاءت تعاليم (عنخ شاشنقى) من عصر الأسرة الثانية والعشرين علي سبيل المثال، والتي تضمنت ما يكفل للدارس التبصر بآداب السلوك والتعرف على قواعد الخُلق الطيب القويم فيقول: “اعمل على تعليم ولدك، أن يكتب، وأن يحرث، وأن يصيد، وأن يستخدم الشص على مدار العام، فإن ذلك يجلب الفائدة بما يعلمه”، و”لو طردت من منزل سيدك، فلابد أن تكون أميناً على أسراره”، و”لا تحتقر أن تقوم بعمل يمكنك العيش منه”، و”لا تقل أنني أديت لأحد معروف ما، ولم يشكرنى عليه، افعل الخير دائماً”، و”اتخذ لنفسك زوجة عندما تصبح في العشرين من عمرك، حتى يكون لك إبنا وأنت مازلت شاباً”.
ولاشك أن هناك العديد من الأدلة تشير إلى تدهور القيم الأخلاقيه والسلوكية في المجتمع المصري القديم من سرقة وقتل وتخريب وقحط، وتفكك الإدارة، والقضاء على التجارة الخارجية، وتولية الغوغاء مراكز الطبقات العليا، وتردى القيم الأخلاقية والسلوكية فى البلاد نتيجة لتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والغزو الأجنبى للبلاد في ذلك الوقت من تاريخ مصر القديمة، كذلك بعض الإنحلال والتسيب الخلقي، وهذا نظراً لدخول عناصر أجنبية واستقرارها في البلاد لفترات طويلة.