خير ما قرأت من الزمن الجميل .. “فى وقت الفراغ”

 

بقلم/ أحمد فيظ الله عثمان

مدير عام ادارة المعادى التعليمية سابقا‏ 

كتب الأديب الصحفى الكبير محمد زكى عبد القادر رحمه الله فى عموده اليومى المنشور بجريدة الأهرام فى 4 مايو عام 1940 وكنا ننتظر مقالاته لنستفيد منها، جاء هذا المقال بعنوان “فى وقت الفراغ” ولازلت محتفظا به، ورأيت أن أنشره كلمحة وفاء فى زمن قل فيه الوفاء. وقد انتقل الكاتب الكبير إلى رحمة الله فى 7 مارس عام 1982 .

نحو النور

فى وقت الفراغ

أرسلت كريمات الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون 29 فستاناً إلى جريدة الأهرام تبرعاً منهن للبنات المهاجرات، وقد صنعن هذه الفساتين فى وقت الفراغ. ففى صبر وتحمل وتضحية بسيطة أمكن أن يقدمن إلى المهاجرات هدية صغيرة، ولكنها جميلة، وعند كثيرات من البنات المصريات وقت فراغ طويل، وبعضهن غنيات، فلا يشتركن حتى فى أعمال البيت الصغيرة، فيتضاعف عندهن وقت الفراغ، وهذا الفراغ شر إذا ترك من غير استغلال وانتفاع، لأنه يقتل ملكات النفس الطيبة، ويترك المجال للانحرافات السيئة، وقد أعطى بعض الفتيات المصريات، من أرقى الأسر وأغناها، المثل على أن روحهن لا تزال مملوءة بالخير، فتطوعن للعمل فى الهلال الأحمر، ووقفت كثيرات منهن فى محطة القاهرة، يستقبلهن المهاجرات، ويمسحن بأيديهن الرحيمة المحنة التى نزلت بهن، وكنا جميعا فخورين بهذا العمل، كنا نشعر أن الفتاة المصرية الغنية أخذت تخرج عن حياة الكسل والترف بين أيدى الخادمات والدادات والمربيات إلى ميدان الخير العام، والتضحية من أجل الغير الذين ساءت حظوظهم .

ووقت الفراغ هو الثروة الحقيقية التى نكسبها من الحياة، والرجل الذي يشتغل طول النهار يطمع فى الحصول على ساعات قليلة، يفرغ فيها إلى نفسه وصحته وعقله، يفرغ إلى إراحة جسمه وترقيته بالرياضة والنزهة، وإلى تثقيف عقله بالقراءة، وهذه هى متع الحياة الحقيقية عند من يفهمون الحياة. فالذى تعطيه الظروف وقت فراغ طويل، ولا أقصد التعطل بطبيعة الحال أفضل حظا من غيره وهو قادر، إذا عرف كيف يستغل هذا الفراغ، أن يشعر بالحياة شعورا عميقا، وفى الحياة أشياء كثيرة جميلة وسعيدة، كلها نعيم وهناء للنفس والعقل والجسم ولكن ما أشقى الذي يكثر عنده الفراغ ولا يعرف كيف يتصرف فيه بغير الجلوس على القهوة ولعب الورق والخوض فى سير الناس، ما أشقى الذى لا يرى فى الفراغ إلا فرصة للعبث الرخيص، والانسياق مع الغرائز المنحطة، ثم يسمى هذا حياة واستمتاعا بالحياة .

وما أسوأ وقت الفراغ لفتاة لا تعرف كيف تنتفع به، وكيف تستغله فى ترقية ذهنها وتثقيف عقلها وخدمة جسمها والعناية به، ولا تعرف كيف تقرأ ولا ماذا تقرأ، فتندفع إلى الروايات والقصص الرخيصة السخيفة، ولا تعرف كيف تجعل بعض هذا الوقت لهواية نافعة كالرسم أو الموسيقى أو زراعة الحدائق، وتجعل بعضه للمحتاجين من الناس، تنسج لهم رداءا أو تزور مريضة أو تتطوع لخدمة عامة، فتنقذ نفسها من السأم والملل والعبث، وتنفتح أمامها آفاق سعيدة فى الحياة.

إن الفتيات فى مصر لا يعملن فى الغالب، وغير المتزوجات منهن يجدن فراغا طويلا، ونحن ننتظر منهن أن يحولن هذا الفراغ إلى ثروة للوطن، وهذه الثروة تأتيه إذا عنيت الفتاة بتثقيف ذهنها وعقلها، كما تأتيه إذا تطوعت لأداء خدمة عامة، وقد دلت حوادث الهجرة الأخيرة على أنها مستعدة أن تفعل ذلك، وقد استحقت من أجله شكراً وفخراً .

محمد زكى عبد القادر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.