سوريا كانت وستبقى أرض الحضارات

تقرير – نور هيثم سروجي – سوريا

فى سوريا: اكتشفت النحاس .. وابتكرت الصلصال وجعلت منه خزفاً وزخارف

المنسوجات الحريرية والموزاييك الخشبى المُطعم بالصدف والعاج .. أهم الصناعات

أبدعت (سوريا) في مجالات عدة من عمارة وفنون وعلوم، حيث أنها تقع على ملتقى طرق ثلاث قارات هي :(آسيا) و(أفريقيا) و(أوروبا)، وتأسست عليها ممالك، وجرت فوق أرضها حروب، وسكنت منذ مليون عام، وترك إنسان ما قبل التاريخ آثاره فيها التي تعود إلى نحو مئة ألف عام، واكتشف فيها (33) حضارة مختلفة و(5000) موقع أثري، ويعتبر علماء الآثار (سوريا) مركز لإحدى أقدم الحضارات على وجه الأرض، بها كانت بداية الاستيطان البشري، وتخطيط أولى المدن، واكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات، وقامت بها المدن الأولى في التاريخ مثل المملكة الأثرية (إيبلا) في شمال سورية بنت امبراطورية امتدت من البحر الأحمر جنوباً حتى تركيا شمالاً وحتى الفرات شرقاً مستمرة منذ عام 2500 إلى 2400 قبل الميلاد.

قامت على أرض (سوريا) حضارات كثيرة وسكنها شعوب شتى يمكن تعدادها على الترتيب الآتي : (السومريون، والأكاديون، والكلدان، والكنعانيون، والآراميون، والحيثيون، والبابليون، والفرس، والإغريق، والرومان، والنبطيون، والبيزنطيون، والعرب، وجزئيا الصليبيون، وأخيراً كانت تحت سيطرة الأتراك العثمانيون، كما أنها خضعت للانتداب الفرنسي بين عامي 1920 و 1946. بدأ التنقيب عن الآثار فيها ( 1860م) ، من قبل العالم الفرنسي (آرنست رينان) الذي بدأ بتدمر والساحل وآثارها منوعة تاريخية ودينية من وثنية ومسيحية وإسلامية.

ارتبطت سوريا مع بقية الدول العربية بالهجرات والتجارة والتزاوج، وكل الدول العربية تتكلم اللغة العربية الفصحى، وإن وجود (سوريا) على طرق دولية تربط القارات الثلاث ببعضها (آوروبا وآسيا وأفريقيا)، وكونها ممر تجاري بين الداخل والبحر، وبين الغرب والشرق، وكونها طريق الحج لثلاث ديانات سماوية هي: (الإسلام، والمسيحية، واليهودية). وكانت أول من بنى حضارة مكتملة في العالم بكل مؤسساتها الحكومية في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد على يد العموريين. ومن أقدم التجارب العلمية والفنية في سوريا كانت مدرسة (ماري) للنحت، وفيها أقدم العقائد الروحية، والمذاهب الفكرية، والقصص المثولوجية، وأقدم الفلسفات، وأقدم الكنائس المسيحية (سمعان) (اللوزة) وكنائس المدن الميتة. ولغة المسيح تتكلمها أربعة قرى في العالم كلها موجودة في (سوريا) هي: (معلولا، وجبعدين، وبخعة، وقلدون) وتبعد نحو (65كم) شمال شرق (دمشق). وكان السوريون أول من استعمل النحاس الطري، وجمعوا بين النحاس والقصدير، واستخرجوا البرونز، وبدأت صناعة التعدين من أسلحة وأدوات زراعية وغيرها، ثم استعملوا الحديد منذ أواخر الألف الثانية قبل الميلاد. كما اخترعوا السفن والزجاج ووضعوا نظام الحساب واستخدموا العربات في قتالهم واخترعوا الدواليب ومهروا في صناعة النسيج وفي تطعيم الأثاث بالعاج والمعادن.

الغناء والموسيقى

اكتشفت في أوغاريت أول نوتة موسيقية مدونة على رقيم تعود الى القرن (14 ق. م)، قسم من الرقيم عليه كتابة، والآخر عليه أرقام وحروف. وبعد الدراسة تبين أن الكتابة هي أنشوده العبادة الإلهية، ولم يُعرف تفسير الأرقام والأحرف حتى اكتشف رقيم من نينوى وكان في المتحف البريطاني وفيه وصف لآلة كنارا وأوتارها وبالمقارنة بين الشرح ورقيم اوغاريت عرفت الأستاذه الأمريكية (آن كليمر) أن الأرقام تشير للأوتار، وبعد جهد أُعيد بناء النوتة، وهي أقدم بألف عام من أقدم قطعة موسيقية عرفها الغرب. عرف الغرب مقطوعة (اوريستيس) المسرحية الموسيقية التي ألفها (يوروبيدوس) أعظم شعراء الإغريق

في هذا الرقيم أساس علم الموسيقى الغربي الذي أقامه (فيثاغورث) عام (500 ق.م)، إذاً أنها تقوم على السلم السباعي (الدياتوني)، وفي هذه القطعة الموسيقية نشيد بين الآلهة جرى عزفها على قيثارة صُنعت خصيصاً لتكون مشابهة لقيثارة ذلك العهد وكان عالم بريطاني اكتشف القيثارة في مدينة (أور) وقام بعزفها الموسيقي (كرو كر) بعد أن استمر بالتعرف عليها والتمرن على عزفها لمدة عشر سنوات وكان ذلك أمام جمهور كبير بجامعة (بير كلي) استمعوا لأصول موسيقاهم التي اخترعتها (أوغاريت) قبل (4000) سنة .كما وجدت نقوش ونماذج لآلات موسيقية محلية منها (الطبلة الكبيرة) الناي المزدوج، والدف، والقيثارة، وغيرها.

وأقدم شكل لآلة (العود) الحالية وجد على لوحة جدارية في (قصر الحير الغربي) تعود الى القرن الثامن الميلادي. كما وجدت أقدم الابتهالات البيزنطية مع مسيقاها في (سوريا)، وفيها أقدم تمثال له علاقة بالغناء وهو تمثال (أورنينا) وجد في (ماري) ويعود إلى (4500 ق.م).

أورنينا المغنية والموسيقية والراقصة في معبد عشتار في مدينة ماري. يعتبر تمثال أورنينا المحفوظ في المتحف الوطني بدمشق من روائع فنون الشرق القديم، عثر عليه في معبد عشتار في مدينة ماري الأثرية، وهو من حجر الألباستر العاجي الجميل. وتبدو أورنينا بملامح وجهها المعبرة عن شعور إنساني وانفعال باطني، ولها حاجبان ظاهران ومتصلان لهما شكل قوسين جميلين فوق عينين كبيرتين شاردتين ومعبرتين أجمل تعبير عن جمال أنوثتها وفتنتها، يشع منها الذكاء والنباهة، ولأنفها شكل يشبه المثلث، وشفتان رقيقتان متصلتان ببعضهما تتجسد فيهما جمالية الصمت الناطق. ولها ذقن جميل، وخدان ممتلئان، وأذنان كبيرتان نسبياً ينساب شعرها الأسود المتموج الجميل من قمة رأسها خلفها إلى ظهرها حتى سوية خصرها، وهو أملس في أعلاه وأجعد في نهاياته وصدرها عار. وهي جالسة على وسادة مزخرفة مستديرة الشكل وعالية، يداها غير ثابتين، تبدو يسراها كأنها تمسك بآلتها الموسيقية، وتبدو يمناها مرتفعة قليلاً كأنها تعزف على هذه الآلة الموسيقية.. وتبدو أورنينا في تمثالها الجميل متدثرة بتنورة لها شكل سروال ينحسر عن ركبتيها، ويدل على أنه لباس راقصة إلى جانب كونها مغنية معبد عشتار وموسيقية فيه. ويبدو على ظهرها كتابة مسمارية تتضمن اسمها “أورنينا” وأنها قد نذرت تمثالها لمعبد عشتار، الذي عثر فيه هذا التمثال الفني الجميل الرائع. والجدير بالذكر أن عادة تقديم التمثال نذوراً إلى الأرباب تشبه عادة إشعال شمعة في كنيسة أو كاتدرائية. كان هذا التمثال الفني الجميل وما زال موضوع دراسات فنية وجمالية وتاريخية عديدة. فقد دل هذا التمثال الحجري الهام على وجود (ورشات نحت) في العاصمة الأمورية (ماري) حريصة على إبداع روائع نحتية متميزة.

الفخار

اكتُشف الفخار في موقع (ابو هريرة) في شمال سوريا، حيث بدأت الزراعة وصناعة السلال التي أدت إلى صناعة الفخار، لأن البيوت كانت تُصنع من القصب ثم تُغطى بالطين، وتعرف الإنسان على خصائص الصلصال فاستغنى عن القصب، وربما الصدفة هي التي عرفته على طريقة شوي الفخار ليصبح أكثر مقاومة. وكانت النساء يصنعن من الصلصال أواني للطبخ وجرار لحفظ الزيت والماء والمؤونة، وللفخار قيمة تاريخية، إذ أن الرسم والنقش عليه يعطينا فكرة عن الطقوس والملابس والعادات التي كان الشعب يتحلى بها، إضافة إلى الكتابة عليه مثل رقم (ماري) و(إيبلا) و(أوغاريت) وغيرها.

عندما فكر العلماء أن ينقبوا عن آثار الإنسان القديم في التلال الإصطناعية القديمة جمعوا فخار كل طبقة على حدة، ودرسوا خصائصه وقارنوا بين فخار الطبقات المتشابهة فوجدوا تقارباً أفادهم إلى حد بعيد في معرفة الحضارات المعاصرة، واستطاعوا أن يحددوا عمر طبقة الأرض من دراسة فخارها.

فخارية من تل حلف (5000 – 5400) ق. م

تمت تسميتها كذلك نسبة إلى موقع تل حلف الذي يقع على منابع الخابور إلى الجنوب من بلدة رأس العين، والذي عُثر فيه على بقايا فخارية ذات صناعة راقية، تعد من أفضل ما أُنتج في منطقة الشرق الأدنى خلال تلك الفترة.

هذا، وقد كانت للمنافسة بين الفخاريين، ومن ثم الإقبال الواسع على اقتناء الأواني الفخارية الحلفية المصنعة يدويا النحاس أو الكحل، ومن ثم شيها بالأفران المغلقة ذات الحرارة المرتفعة، وهذا ما يؤدي إلى تحول مساحيق الأكاسيد عن طبيعتها الغبارية غير المتماسكة، لتأخذ شكل الطبقة الزجاجية الخضراء، الرقيقة والشفافة، الحافز الأكبر الى دفع الصناع للعمل على تطوير تقانات إنتاجهم، من حيث اختيار التربة الأنسب للصناعة، وتحضيرها بدقة بعد إبعاد الشوائب والأجسام الغريبة، ومن ثم التصنيع الدقيق للآنية الحلفية التي تميزت برقتها ونعومة ملمسها، هذا إلى جانب رشاقة أجسامها، وانحاناءاتها وتحدباتها السطحية من شفة وبطن، وجعلها أكثر شبهاً بالآنية المعدنية، هذا الى جانب استخدام تقانة الشي في الأفران ذات الحرارة المرتفعة .

على الرغم من تأثر الفنانين الحلفيين بفنون الحقب السابقة، واقتباسهم للعديد من تشكيلاتها الزخرفية كالخطوط المستقيمة، والمتعرجة، والمنكسرة، والمعينات، والمثلثات، غير أنهم قد عمدوا إلى إبراز طابعهم الفني الخاص بهم، من خلال التشكيلات الزخرفية الجديدة التي تمثلت بالتشكيل الصدفي أو الفأس المزدوج ذي الحدين، هذا إلى جانب استخدام بعض التشكيلات الزخرفية الشبيهة بإشارة الصليب المالطي أو الصليب المعقوف، المنفذين باللون الأحمر والأسود، والتي لا ندري إن كان لهذا التشكيل دلالة دينية. هذا إلى جانب اعتماد بعض الموضوعات الزخرفية المقتبسة من البيئة المحيطة، والمتمثلة بالوريدات ذات الأربع بتلات، الطيور، والثعابين، والأسماك، هذا إلى جانب رسم الثور المقدس ذي التشكيلة المجردة من خلال تكوين الرأس على شكل قيثارة .من جانب آخر فقد تميزت آنية تل حلف بألوانها ورسومها السوداء، والحمراء، والبرتقالية، والبُنية الغامقة، ولكن غالباً ما كانت الآنية تلون بلونين معاً كالأحمر والأسود البراق، أو الأحمر والأبيض، هذا إلى جانب استخدام تقانة الطلي الزجاجي .

ومن الجدير بالذكر القول، أن الإقبال الشديد على الصناعات الفخارية، دفع الصناع إلى تصنيع الدمى الطينية ذات الأشكال النسائية، والمتميزة عن الفترات السابقة، من حيث الابتعاد عن تعرية الدمية الطينية الممثلة للربى الأم، رمز الخصوبة، المرتدية للثوب المخطط، الذي يستر الجسم .

الدولاب

لم يُعثر على دولاب بسبب تآكل الخشب مع الزمن، إلا أن الرسوم والنماذج الطينية فيما بعد دلت على أن الدولاب اخترع في (سورية). وعُرف الدولاب لديهم من العصر الحجري الحديث أي أكثر من خمسة ألاف عام قبل الميلاد ثم انتقل الى السومريين نحو (3500 ق. م)، وانتشر استعماله في كل الاتجاهات في شرق المتوسط، وأدخله (الهكسوس) إلى وادي النيل عام (1650ق.م)، وقد ظهر في الصين متأخراً عام (1400ق.م) وفي شمال أوروبا عام (1500 ق.م)، واختراع الدولاب كان له تأثير كبير في النقل والمواصلات التي أصبحت أسهل وأسرع .

الحياكة

أقدم الملابس كانت من جلود الحيوانات التي اصطادها الإنسان، وقد نُقشت رسوم لها وهو يرتديها على جدران الكهوف والمغارات مثل (مغارة أم قطفة) وكهوف (بئر السبع) وغيرها، وتعود إلى (35 ألف عام ق.م) ثم وجدت العالمة الأثرية (كاتلين كينون) تمثال لآلهة الخصب وهي ترتدي عباءة فضفاضة من نسيج معروف من منطقتنا منذ (7 آلاف عام ق.م)، وقد استخدم مغزل بدائي هو (مغزل التصليبة) الذي لا يزال يُستعمل في بعض المناطق، ثم تطور النول إلى شكل آخر يعتمد على تمرير الخيوط بالأصبع بين الخيوط الطولانية المثبتة على النول، ثم تطور إلى النول الأرضي البدائي (المنساج) ويعود إلى الألف السابعة قبل الميلاد.

الكتابة والأبجدية والمعاجم

اكتُشف عام (1996) حجرة في شمال سوريا عليها كتابة عمرها (11) ألف عام، والكتابه المسمارية في سوريا تزامنت مع كتابة بلاد الرافدين، وفي أوغاريت اخترعت الأبجدية المسمارية، وتعتبر أول أبجدية مكتوبة بترتيبها الأصلي المتبع حتى الآن، والكتابة اخترعت في منطقتنا نتيجة للثورة الزراعية التي حصلت مبكرة، ونتيجة للتطور العمراني والتجاري وبالتالي الاجتماعي والثقافي والعلمي، ولزيادة الحاجة للأرشفة فكانت الكتابة والتوثيق والأختام المسطحة والأسطوانية. وُجد أقدم قاموس للغتين في (إيبلا) كما وجدت معاجم في (أوغاريت) كتبها (رعبانو) عن الحيوانات والمقاييس والآلهة والأمراض وعلاجها وفقه اللغة ومعاجم للغة أوغاريت ومايقابلها من اللغات السومرية والبابلية، وتعتبر من أقدم المعاجم التي وجدت في سوريا.

اختراع الكتابة

تختلف اللغة المحكية عن الكتابة، لأن الأولى يتعلمها الإنسان من الجماعة لفظاً، أما الثانية فهي اختراع يتطور مع الزمن، ويلزمه تعلم بشكل جدي. وقد مرت الكتابة بمراحل عديدة، وتطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. وقد لخص (الدكتور عدنان البني) وغيره من الأثريين مامعناه:

في الألف الثاني عشر قبل الميلاد، كان الإنسان يعيش في مساكن بسيطة بعد أن غادر الكهوف، وأخذ يأكل من ثمار الطبيعة، ومن صيد البحر والنهر. وفي الألف التاسع قبل الميلاد، صار يزرع الحبوب، ويدّجن المواشي، ويصنع الفخار. وبدأ التبادل التجاري، مما اضطر الإنسان لاختراع وسيلة يسجل بها تبادل السلع، وما يتعلق بالمعاملات التجارية من أجل ذلك اخترع علامات ورموز، اختلفت من منطقة إلى أخرى واستخدم في ذلك كُتلاً من الطين المجفف على شكل كرات، أو مكعبات، أو أقراص، أو مخاريط، أو معينات، أو أشكال بيضوية، وغير ذلك عثر على هذه الأشكال في أماكن عديدة من بلادنا .وبدأت بذلك الكتابة التصويرية التي ظهرت في (وادي النيل) و(بلاد الرافدين)، أولاً في بلاد (سومر) ثم انتقلت إلى بقية البلاد الأخرى، وكان ذلك في نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، وفي نفس الوقت كانت كتابة أخرى تظهر في الساحل الفينيقي.

ويمكن تقسيم مراحل الكتابة إلى :

1- كتابة تصويرية (هيروغليفية): أي رسم أو نقش الشيء المراد ذكره على لوح من الطين الطري ليجفف فيما بعد، وهذه الكتابة لا تعبر عن الأفكار والمعاني المجردة .وقد اكتُشفت كتابات تصويرية أولى في مدينة (الوركاء) أي (أوروك) في (بلاد الرافدين)، وكانت على رقم صغيرة تعرف بالبطاقات تعود إلى نحو (3200 أو 3100 ق.م).

2- الكتابة المسمارية :نفس الأشكال السابقة جعلت أفقية بدلاً عن العمودية، وقرئت من اليسار إلى اليمين، وكانت تحز أو تنقش على الطين بأداة ذات رأس كالمسمار فأصبحت أشكال الكتابة كالمسامير أو الأسافين، وأطلق الرافديون عليها (خربشة المسامير)، أي (تيكيف سانتاكي)، ودعيت بالعصر الحديث بالكتابة المسمارية، وقد اشتقت من كلمة (كوناليوس) باللغة الاتينية وهي مسامير تعود إلى نحو (700-2500ق. م) .

3- الكتابة المقطعية: مع الأيام أصبحت الأشكال والعلامات تختلف عن الأصل تدريجياً ولم تعد الصورة تعبر عن الشكل المرسوم بل أصبحت رمزاً مرة، ومقطعاً مرة أخرى، مثلاً إذا رأينا مقطع (هر) لا ندري إذا كان المقصود هو (القط) أو مقطع كلمة يبدأ بنفس الأحرف مثل (هروب) أو هذا المقطع جزء من اسم شخص ما، وصار الجزء من الصورة يعبر عن الكل مثلاً:

4- الأبجدية: ابتدعها الأوغاريتيون بالكتابة المسمارية، وفي (جبيل) بالكتابة الخطية، أي يوضع لكل صوت رمز، ومجموع هذه الرموز يدل على الكلمة المقصودة. وهذه الرموز هي الحروف الأبجدية، في البداية كانت الأحرف ساكنة ثم أضيفت لها الأحرف الصوتية، ولسهولة الحفظ أعطوا لكل حرف اسماً فينيقياً، وهذا الترتيب حافظ الجميع على وضعه منذ البداية حتى الآن في جميع دول العالم القديم والحديث، وقد انتقلت هذه الأبجدية مع الفينيقين البحارة والتجار إلى سائر بلدان العالم.

أهمية الأبجدية: كانت من أوائل المراحل الديمقراطية، وحققت المساواة بين الأفراد، إذ مكنت الجميع من التعلم والتثقف، وكان لها أهمية تعادل أهمية اختراع الطباعة بعد ثلاثة آلاف سنة لأنها نظام كتابي بسيط يستطيع الطفل تعلمه بسهولة، وبذلك كثر عدد المتعلمين وتدرّس اللغة الأوغاريتية في أربعين جامعة في أنحاء العالم حالياً، وقد ذكرها المؤرخ اليوناني (هيرودوت) في القرن (5 ق.م) وإن الفينيقيون نقلوا مع تجارتهم إلى اليونان كتابتهم المتطورة عن الأوغاريتية.

أبجدية أوغاريتتعتبر أقدم (أبجدية) في العالم، وتعود إلى القرن (14 ق.م) في عام (1929) عثر على أول رقيم آجري كتب بالمسمارية بلغة غير معروفة في (أوغاريت) وتوالى العثور على الرقم وخلال حفريات عامي (1948 و 1949) وفي قاعة أمانة السر بالقصر الملكي عثر على رقيم صغير من الآجر، نقشت عليه تلك الأبجدية، لتكون نموذجاً للكتبة المبتدئين وتتألف من 30 حرفاً مسمارياً، تطورت الأوغاريتية من الكتابة التصويرية والمقطعية حتى توصلت إلى الأبجدية، وكانت من (29) حرفاً مسمارياً وعدلت إلى 22 حرفاً يفصل بين الكلمات حرف مسماري عمودي وكانت تكتب من اليمين إلى اليسار من الآراميون حينما التجأوا إليهم هرباً من هجمات شعوب البحر.

أبجدية جبيلبعد قرن من أبجدية أوغاريت، أي في القرن الثالث عشر قبل الميلاد استطاعت (جبيل) الفينيقية أن تبتدع الأبجدية الخطية البدائية بدلاً من المسمارية، وصارت هذه الأبجدية تتطور مع الأيام ووجدت أقدم كتابة لهذه الأبجدية على قبر الملك (أحيرام بيبلوس) (متحف بيروت الوطني)، ومضمونها يهدد اللصوص بالمصائب التي تنتظرهم إن اقتربوا من القبر واستعمل كتبة (جبيل) رموزاً لكل الصور واستغنوا عن الكتابة الهيروغليفية والمقطعية واتبعوا نفس الترتيب الهجائي ولكن حروفهم كانت (22) وكلها ساكنة، وسافرت هذه الأبجدية مع التجار والتجارة نحو (800 ق.م) واستخدم الحبر وورق البردي فأخذت الكتابة شكلاً خطياً وليس مسمارياً وكل حرف من حروفها صار له اسماً مثلاً:

حرف الألف =ألفا= رأس ثور، حرف الباء=بيتا، يعني بيت، حرف الجيم=جاما يعني جمل، حرف الدال=دلتا، يعني باب الخيمة أو شكل المثلث. وتطورت أبجدية جبيل وصنفت إلى قديمة من القرن (9ق.م – 12 ق.م) ووسطية من (9 ق.م-6 ق.م) ومنها تطورت (البونيتية) في مملكة ومستعمرة قرطاج والحديثة التي تعود إلى القرن (5ق. م و 1م). كما أن الآراميون استخدموا أبجدية (جبيل) في كتابة لهجتهم التي عمت العالم القديم ونقل الفينيقي (قدموس) هذه الأبجدية إلى اليونان واستخدموها اليونانيون في كتابة لغتهم بعد أن قاموا بإدخال الحروف الصوتية عليها، ومن اليونان انتقلت الأبجدية بنفس نظام ترتيبها إلى أوروبا القديمة وصارت قاعدة لكل الأبجديات العالمية عدا (الصينية).

فن الموزاييك

هو فن وحرفة صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية عن طريق رصف ولصق عدداً من المكعبات وفقاً لرسم أو صورة محددة فوق مساحة مخصصة ومهيئة مسبقاً بحيث تركب المكعبات وتثبت فوقها بإضافة طبقة رقيقة من الملاط وتستخدم مواد متنوعة من الزجاج والصدف والمعادن والذهب والفضة والسيراميك والفخار وغيرها لإنتاج لوحات فنية ذات مواضيع مختلفة تحتوي أشكالاً هندسية أو نباتية أو تصاوير آدمية أو حيوانية.

تحتوي سوريا على العديد من اللوحات الفسيفسائية المميزة على مستوى العالم بحجمها ومواضيعها والمحفوظة في المتاحف والقلاع والكنائس والبيوت والمساجد والمباني الأثرية في مناطق (شهبا، وأفاميا، وتدمر، والقنوات، ومعرة النعمان، وبصرى وغيرها)، وتعود لفترات زمنية عدة، إلا أن أقدم العمائر التي لا تزال باقية ترجع إلى العصر الأموي.

وتعد فسيفساء الجامع الأموي بدمشق واحدة من أشهر لوحات (الفسيفساء الإسلامية) في المنشآت الأموية الأولى التي أُنشئت في بداية القرن الثامن الميلادي، وترجع إلى عهد (الوليد بن عبد الملك)، والذي ساعد على بقائها أنها كانت مخفية تحت طبقة من الكلس. وحيث استخدم في تنفيذها مكعبات زجاجية مقاومة للمطر والغبار والحرارة، وهذه المكعبات مكونة من وريقات معدنية رقيقة من الذهب والفضة، استخدمت الذهبية منها في تنفيذ الخلفيات، في حين صورت المكعبات الفضية المياه بطريقة واقعية من خلال مزجها بمكعبات بيضاء وزرقاء وأخرى باللون الأزرق الفيروزي، كما استخدمت في بعض الأماكن صفيحات من عرق اللؤلؤ، فساعدت بفضل شكلها الذي يشبه قطرة ماء على تصوير المصابيح المتدلية بين عقود المباني.

توصف الفسيفساء في الجامع الأموي بالواقعية حيث ركزت على نقل الواقع من مناظر طبيعية وعمائر إلى اللوحات فامتازت عن جميع الأعمال التصويرية الجدارية الأخرى بموضوعاتها وأسلوبها الفني، فهي تمثل مجموعة من الكتل والعناصر المعمارية من (قصور، ومنشآت، وجمالونات، وأعمدة، وجسور، وأبراج، وأروقة محاطة بالأشجار). وتحاشى الفنانون فيها وجود الأشخاص أو الحيوانات (التصويو التشبيهي) تقيدّاً واحتراماً لوظيفة المكان الأساسية المتمثلة بالعبادة، وقد شغلت الفسيفساء مساحة كبيرة في الجامع وغطت معظم أجزاء الأروقة المطلة على صحن الجامع، وغطت بطون العقود وواجهاتها، ودهيلز الباب الغربي، وواجهة الحرم المركزية وفي قبة الخزنة (بيت المال) في صحن المسجد، وأهم ما بقي منها مصورة بردى الموجودة في الجدار الداخلي للرواق الغربي. لعبت سوريا دوراً أساسياً في التاريخ وتطور الحضارة الإنسانية، فكانت معبراً عظيماً للتجارة بين البحر الأبيض المتوسط والشرق، وصدرت الأبجدية إلى الغرب ومنها انطلقت الأديان ابتداءً من عبادة الآلهة إلى الديانات التوحيدية.

إن سوريا مركزاً للعديد من أقدم الحضارات على الأرض، وموطن الحضارة. فقد تقاطعت على امتداد الأرض السورية الحضارات الهامة في التاريخ والتي قدمت الكثير للحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين مختلف الحضارات الشرقية التي قامت في المنطقة: الأموريون، والأراميون، والأكاديون، والبابليون، والبيزنطيون، والرومان، واليونانيون. وتعتبر سوريا من أقدم مناطق البشرية والاستيطان البشري وبناء المدن وقيام الحضارات وأول موطن للزراعة وتدجين الحيوانات. واكتُشفت في سوريا أهم الاختراعات ومنها (الغناء، والموسيقى، والحياكة، والدولاب، والفخار، والموزاييك، والكتابة وغيرها..)، وأسواقها مليئة بالصناعات اليدوية التقليدية: (الحفر على الخشب، وتطعيم العاج والفضة والمعادن، والتنزيل بالذهب والفضة الصناعات الزجاجية والمعدنية والنحاسية والجلدية والخزف والسجاد، وصياغة الحلي الذهبية والفضية والصناعات النسيجية)، سوريا كانت وستبقى أرض الحضارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.