بنت النور ” قصة قصيرة ” بقلم شادية القرضاوى
ربما ما فعلته سكن ـ لحظتهاـ كان أعظم تعبير عن الحب رأيته على الإطلاق . عندما رأيتها ثانيًة ظهر يوم عودتى إلى قريتنا ، بعد سنوات عديدة ومن تلك الحادثة ، شاهدت فى عينيها نفس التعبير الـﺬى رأيته يومها فى الكتاب . كنت دون السابعة ، حينما أسرﱠ لى أبى أننى غدوت رجلا ويجب أن أترك لعب الحواري وأصبح شخصية محترمة : شيخًا أو خوجة ، مثل الشخصيات التى يحترمها أبى والتى تقطع الطريق أما بيتنا جيئة وﺬهابًا طيلة اليوم . حدث ما توقعته عندما فتح أبى باب الغرفة ليلًا ممسكا بحقيبة من القماش ، خاطتها أمى كى تحمل لوح الإردواز ، قربة الماء والطعام . فى طريقى إلى الكتاب كان لهواء الحقول سطوة آسرة ، ولوقع خطواتى فى طريق الكتاب ارتعاشة قلقة ، بيت من دور واحد له باب خشبى بنى اللون واطىء ، فى داخله فرشت حصيرة كبيرة لجلوسنا عليها نحن الأولاد ، أما فى مقدمتها فقد وضعت دكة خشبية كى يجلس فوقها ” سيدنا” ، وأمامه حامل خشبى يشبه خشب أقفاص الخضر والفاكهة موضوع فوقه مصحف . الشيخ الشنقيطى كان يفخر بأنه من نسل علماء قدموا من المغرب واستوطنوا قريتنا ” ميت النور” فازدادت نورًا وهكـﺬا سميت ميت النور. على أنه لم تكن هناك أنثى سوى ” سكن ” ، فلم يكن معتادًا فى قريتنا وقتها أن تـﺬهب البنات إلى الكتاب، أما سكن فكانت تريد أن ينير الله عقلها بالقرآن ، كما أخبرت سيدنا عندما سألها ، عن سبب التحاقها بالكتاب. كنا كأطفال نضحك مأخوﺬين من وجود فتاة معنا فى كتاب كله من الصبيان، على أن أكثر ما يضحكنا كان ملامح سكن نفسها ، إﺬ كانت جعداء الشعر بشكل لافت ، يبدو ﺬلك بجلاء أسفل إيشارب مزركش كانت ترتديه فوق رأسها ، وكان يحلو لخلف غزلان عريف سيدنا أن يدعوها ب”سلك المواعين ” أو مقشة الكتاب ” مما كان يستحث عينيها لسكب الدموع من مآقيها ، إلا أننى كنت أشعر بوخز الضمير أحيانا عندما تنفلت منى ضحكة سخرية من سكن وإن كنت لم أعرف حينـﺬاك سبب وخز الضمير . على أننى اختبرت رقة مشاعرها فى الأسبوع الثاني من الكتاب ، عندما نسيت لوح الإردواز وتطوعت هى بإعطائي لوحها ، وتحملت عقاب سيدنا لها بتعليقها فى الفلكة ، كما تحملت سخافة خلف غزلان عريف سيدنا ، والعريف مهمته مساعدة الشيخ فى “عبط” التلاميـﺬ الخائبين أو تعليقهم فى الفلكة . عندما عدت إلى قريتنا ظهر ﺬلك اليوم ورأيت سكن ، كان شعرها الأجعد قد اختفى وحل محله شعرًا أكثر انسيابًا ورقة أسفل إيشارب فوشيا مزركش ، ولم أكن ـ طفلاـ قد لاحظت أنها حوراء هدباء رقيقة الحاجبين وإن احتفظت بنفس الحنان الـﺬي لاحظته أول مرة فى الكتاب وهى تداعب آتانا محملة بالسباخ متجهة صوب غيط زوجها .