“الاحتواء العاطفي: سر التوازن النفسي وأساس بناء الإنسان”
بقلم: الباحثة سلمى الفلاح
قضيتُ سنين من عمري أدرس في ملفات الأطفال والبالغين، وأراجع المراحل الأولى من طفولتهم بحكم عملي في السجون ووحدات الأسرة والطفل. واكتشفتُ أن القسوة، وغياب الاحتواء العاطفي من الأسرة، هي من أخطر العقوبات التي تُرتكب بحق الطفولة، وأكثرها تأثيرًا في توازن الشخصية، وأن الإهمال العاطفي غالبًا ما يقود بالإنسان إلى طريق الجريمة، أو على الأقل إلى اضطرابات نفسية حادة، وشعور دائم بعدم الأمان.
ما هو الاحتواء العاطفي؟
الاحتواء العاطفي هو تفاعل وجداني إيجابي بين الطفل ومن حوله، يبدأ منذ لحظة وجوده في رحم أمه. فطمأنينة الأم، واستقرار حالتها النفسية، تنعكس مباشرة على نمو عقل الجنين، بسبب انتقال الهرمونات عبر المشيمة.
وعند ولادة الطفل، يصبح الاحتواء العاطفي أكثر أهمية. ففي عامه الأول، يحتاج الطفل إلى الحنان والاحتضان، والابتسامة، والتلامس الجسدي، والنظر المباشر. هذا كله يشعره بالأمان، ويغذي إحساسه بالقيمة والحب.
من الرضاعة إلى التكوين
في سنواته الأولى، وخاصة بين السنة الثانية والثالثة، يبدأ الطفل بالتعبير عن احتياجاته بشكل مختلف. الابتسامة أثناء إطعامه، الاحترام لجسده أثناء تغيير الحفاض، التفاعل الروحي معه، وفهم بكائه والتعامل معه، كل ذلك يعزز صحته النفسية. على الوالدين أن ينتبها إلى أن كل نظرة رفض أو ضجر تُخزن في ذاكرته، ويبدأ ببناء تصور عن نفسه والعالم من خلالها.
ثم تأتي المرحلة التي تبدأ فيها شخصية الطفل بالتشكل المستقل، من عمر الرابعة إلى السادسة، وهنا تظهر بوادر التمرد. يتطلب هذا العمر حكمة في التعامل، فالتربية يجب أن تُبنى على النقاش لا القمع، على الحوار لا الأوامر، وعلى احترام اختلاف الطفل وهواياته وميوله، دون مقارنته بغيره، مع ربطه بالقيم والمبادئ.
الصحة العاطفية… والاستقرار النفسي
الطفل الذي يعاني من الإهمال العاطفي قد يواجه في المستقبل:
الاكتئاب
الاضطراب ثنائي القطب
اضطرابات الهلع والرهاب
الخوف المزمن
فقدان الثقة بالنفس
جلد الذات
اضطرابات ما بعد الصدمة
انعدام احترام الذات
الانحرافات السلوكية
هذه الأعراض ليست مبالغات، بل حقائق متكررة شهدناها داخل السجون والمراكز النفسية.
الأمان العاطفي: ضرورة لا رفاهية
حين يُحرم الطفل من الحب والاهتمام، يظل طيلة حياته يبحث عن بديل. يبحث عن من يحتضنه، حتى لو كان ذلك في أماكن خاطئة. يتنازل عن حقوقه، يُستهان به، يُستغل بسهولة، لأنه فقط يريد أن “يُحتوى”.
يروي أحدهم: “كنت أستجيب لأي شيء فقط لأجد من يحتويني، بعد قسوة أبي وسلبية أمي، وأجرمتُ في نفسي قبل الآخرين. الآن، تحتضنني السجون، وهي أرحم من بيتي”.
ويحكي آخر: “هربت من إهمال أمي التي تزوجت، وانشغلت، ومن أبي الغارق في الخمر. لعب بي الشارع حتى فقدت نفسي…”.
مؤشرات الخطر لدى الطفل:
إذا لاحظت على طفلك:
الانطوائية
البكاء من أتفه الأسباب
العزلة
التوتر
التبول اللا إرادي
الخوف الزائد
فوجّه كل اهتمامك إليه فورًا. تذكّر: البيوت لا تُبنى بالواجبات فقط، بل تُبنى بالدفء والاحتضان.
خطوات العلاج
اعترف بخطئك لطفلك. الاعتراف لا يُنقص من قيمتك، بل يعيد لطفلك ثقته بك وبنفسه.
ابدأ بالتعويض. لا تنتظر، كل يوم تأخير يزيد الجرح.
استعن بطبيب نفسي إن لزم. لا تخجل من العلاج.
واجه طفلك الداخلي. أنت أيضًا قد تكون ضحية إهمال، ابدأ بمداواة نفسك لتستطيع أن تُداوي غيرك.
اجعل لغة التواصل مع أطفالك وجدانية، لا مجرد أوامر.
لا تجعلهم ينامون ودموعهم في عيونهم.
رسالة ختامية:
كما قال ابن نوح: “سآوي إلى جبل يعصمني”، فكل إنسان في لحظات ضعفه يحتاج إلى جبل يلوذ به. كن أنت ذلك الجبل لطفلك. لا تجعله يبحث عن الاحتواء خارج البيت.
ارفض السلوك، لا الطفل. وقل له دومًا: “أنا قوتك… إن أخطأت أصلحتك، وإن أصبت فرحت بك، وفي كل الأحوال أحبك دائمًا.”