رهف القصيدة: حين يصبح الحنين أنثى في قصائد وليد حسين الخطيب

رهف القصيدة: حين يصبح الحنين أنثى في قصائد وليد حسين الخطيب

عمرو الكاشف

صدر في بيروت-لبنان عن دار “الانتشار العربي” ديوان رهف قصيدة لم تولَد للشاعر وليد حسين الخطيب، في عمل شعريّ – يضمّ 22 قصيدة، من تقديم الدكتور خالد كموني – هو أقرب إلى سيرة قلبٍ وأغنية انتظار، بل هو مرآة شاعرٍ تمنّى أن تلمس يده يدًا صغيرة، لم تأتِ، لكنها جاءت شعرًا، فكانت القصائد بناته، وكانت “رهف” الأكبر والأقرب والأبهى.
يتوزّع الديوان بين صفحاتٍ تحتفي بالحبّ، وتؤرّخ للحنين، وتشتبك مع وجع اللحظة الوطنية، من فلسطين إلى غزّة، ومن الحنين للأنوثة إلى مرارة الزيف التاريخي، ومن الطفل الغائب إلى أنثى الحلم. وكأنّ الشاعر أراد أن يجعل من هذا الديوان سجلًا عاطفيًّا لزمنٍ لم يعشْه بكامله، لكنه عاشه بوجدانه وروحه.


على غلاف “رهف”: مشهد يختصر القصيدة
ليس الغلاف مجرّد صورة، بل هو مشهد شعريّ بصريّ يُمهّد لرحلة الديوان. نرى فتاةً واقفة، في هيئة خيالٍ أو طيف، تستدير بظهرها إلى القارئ، كأنها ماضية إلى مكانٍ لا نراه، أو آتية من حلمٍ لم يكتمل. لا وجه لها، لكنها مليئة بالحضور، بهيئة من تتجسّد بين الغياب والرجاء.
أمامها يقف الشاعر الوليد، بنظرة مشبعة بالشوق، مسكونة بالحبّ، ومبلّلة بشيء من الرجاء الموجوع. لا يمدّ يده، بل يمدّ نظره، كأنّ بينهما مسافة لا تعبرها سوى القصيدة.
إنه لا يراها فقط، بل يكتبها. لا يخاطبها بلسانه، بل بعينيه، بكل ما فيهما من سؤال وحنين. كأنّه يقول: “أنتِ هناك، لكنكِ كلّي… وها أنا أراكِ أكثر مما أرى نفسي.”

هذا الغلاف لا يختصر ديوان رهف، بل يُمهّد له كما يُمهّد الفجر للنهار، وكما يُعلن الصمت قدوم الموسيقى. هو إعلان حبّ لا يحتاج إلى كلمة، لأن الصورة هنا، هي أول القصائد.

من الرهف إلى الوجدان: طفلة القصيدة وشهد الحبر
العنوان ليس محض اسمٍ لقصيدة أو مفتاحٍ لديوان. “رهف” هي أكثر من ذلك: هي الحلم المجروح، والحنين المتجسّد، والأنثى التي ما رأت الشمس، لكنها رأت الشعر. يهدي الوليد ديوانه إلى “رهف” التي لم تأتِ، لا لأنه ينوح الغياب، بل لأنه حوّله إلى حضور شعريٍّ مشعّ، إلى كيان كامل يعيش في الكتابة. واللافت أن هذا الغياب لم يُنتج مرثية، بل أنتج ولادةً لغوية ناعمة وقوية في آن.

قصيدة تمشي على الحافة: بين الوزن والحرية
ما يميّز الديوان أيضًا هو انفتاحه على الأوزان من دون أن يتقيد بها، وجرأته في ارتياد القصيدة الحرة من دون أن يفقد طعمه الإيقاعي. فثمّة قصائد تأتي في نَفَسٍ كلاسيكي موزون، بينما أخرى تنبض بروح الشعر الحرّ، في تنوّع يدل على خبرة الشاعر في تطويع الشكل لمصلحة المعنى، وليس العكس.
هذا التعدّد لا يأتي من تشتّت بل من وعي شعريّ بالأدوات. فقصائد مثل “أنا وأنت ولحن الوجود” و”قهوتنا الصباحيه” تنبض بوزنٍ رشيق، بينما أخرى مثل “رهف” و”طفل غزّة” تسير بنثرٍ شعريٍّ محمّل بالمجاز والصور الكثيفة.
قلبٌ على كتف الوطن
في قصائد الديوان أيضًا وجهٌ آخر: وجه الوطن الجريح، وصرخة غزة، ووجع فلسطين. لكنّ الشاعر لا يقع في فخّ الخطابة ولا يرفع شعاراتٍ جوفاء. بل يجعل من اللغة ميدانًا للصراخ النبيل، ويكتب عن الوجع بضمير العاشق لا بلسان الخطيب.
قصيدة “طفل غزة” ليست قصيدة ثائرة فحسب، بل قصيدة بكاءٍ إنسانيّ، محمّلة بصوت أمٍّ فقدت طفلها لا على شاطئ البحر فحسب، بل على شاطئ الصمت العالمي.

الأنوثة ملاذًا لا موضوعًا
من الجماليات اللافتة في الديوان أنه لا يقدّم الأنثى موضوعًا للقصيدة بل روحًا فيها. في “للأنوثة مهرجان”، وفي غيرها، يكتب الوليد عن المرأة لا بوصفها جسدًا بل بوصفها معنًى، لا بوصفها ظلًّا بل باعتبارها النور، لا بوصفها غيابًا بل لأنها هي الحضور الكامل.

في الختام: ديوان يُقرأ بالقلب لا بالعين
ديوان رهف قصيدة لم تولَد لا يشبه سواه، لأنه مكتوب ليس بحبرٍ أسود فقط، بل بمداد من القلب والوجدان والدمع المبتسم. هو ديوانُ شاعرٍ لم يرضَ أن يكون الحلم حلمًا، فحوّله إلى كتاب، ولم يرضَ أن يكون الغياب ألمًا، فحوّله إلى كتابة، ولم يرضَ أن تمرّ الطفولة من دون أن يكون لها اسمٌ وعطرٌ وظلّ، فسمّاها “رهف”، وكتبها كأجمل ما تكون القصيدة: ناعمة، عميقة، صادقة، ومفعمة بالحنين والرجاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *